فصل: سنة سبعين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

قيل: في هذه السنة وافى عرفات أربعة ألوية: لواء لابن الحنفية وأصحابه، ولواء لابن الزبير وأصحابه، ولواء لبني أمية، ولواء لنجدة الحروري، ولم يجر بينهم حرب ولا فتنة، وكان أصحاب ابن الحنفية أسلم الجماعة.
وكان العامل لابن الزبير على المدينة هذه السنة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة مصعب أخوه، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان عبد الملك بن مروان بالشام مشاققاً لابن الزبير.
ومات عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين وعمره أربع وسبعون سنة، وقيل غير ذلك. وفيها مات عدي بن حاتم الطائي، وقيل: سنة ست وستين، وعمره مائة وعشرون سنة. ومات أبو واقد الليثي واسمه الحارث بن مالك. وفيها توفي أبو سريح الخزاعي واسمه خويلد بن عمرو وهو الكعبي. شريح بالشين المعجمة.
وعبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: إنه ولد زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
حاطب بالحاء المهملة، وبلتعة بالباء الموحدة، والتاء المثناة من فوق، والعين المهملة المفتوحات. ثم دخلت:

.سنة تسع وستين:

.ذكر قتل عمرو بن سعيد الأشدق:

في هذه السنة خالف عمرو بن سعيد عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق فقتله، وقيل: كانت هذه الحادثة سنة سبعين.
وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم، ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحارث الكلائي، وكان عمرو بن سعيد مع عبد الملك، فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلاً ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنه وهدم دار ابن أم الحكم، واجتمع الناس إليه فخطبهم ومناهم ووعدهم.
وأصبح عبد الملك وفقد عمراً، فسأل عنه فأخبر خبره، فرجع إلى دمشق فقاتله أياماً، وكان عمرو إذا أخرج حميد بن حريث على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو زهير بن الأبرد أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل.
ثم أن عبد الملك وعمراً اصلحا وكتبا بينهما كتاباً وآمنه عبد الملك، فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك فانقطعت وسقط السرادق، ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا.
ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فلما كان بعد دخول عبد الملك بأربعة أيام أرسل إلى عمرو أن ائتني، وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو، فقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، في مثل هذا هلكت حمير. فلما أتى الرسول عمراً يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقال لعمرو: يا أبا أمية أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري وأرى لك أن لا تأتيه. فقال عمرو: لم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيماً من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل. فقال عمرو: والله لو كنت نائماً ما انتهبني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي، أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه. وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو. ثم قال عمرو للرسول: أنا رائح العشية.
فلما كان العشاء لبس عمرو درعاً ولبس عليها القباء وتقلد سيفه وعنده حميد بن حريث الكلبي، فلما نهض متوجهاً عثر بالبساط، فقال له حميد: والله لو أطعتني لم تأته. وقالت له امرأته الكلبية كذلك، فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه.
وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان، فلما بلغ الباب أذن له، فدخل، فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قارعة الدار وما معه إلا وصيف له، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان وحسان بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه وقال: انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتيني، فلم يفهم الوصيف فقال له: لبيك! فقال عمرو: اغرب عني في حرق الله وناره! وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة فقاما فلقيا عمراً في الدار، فقال عمرو لوصيفه: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتني. فقال: لبيك! فقال عمرو: اغرب عني.
فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو، فرحب به عبد الملك وقال: هاهنا هاهنا يا أبا أمية! فأجلسه معه على السرير وجعل يحادثه طويلاً، ثم قال: يا غلام خذ السيف عنه. فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين. فقال عبد الملك: أتطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك؟ فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة. فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟ فقال بنوا مروان: أبر قسم أمير المؤمنين. فقال عمرو: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين.
فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال: يا غلام قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس. ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس. ثم جذبه جذبه أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه. فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه. فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال: أعذراً يا ابن الزرقاء! وقيل: إن عمراً لما سقطت ثبتاه جعل يمسهنا، فقال عبد الملك: يا عمرو أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعاً لا تطيب نفسك بعدها.
وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي، ليقتلني من هو أبعد رحماً منك.
فألقى السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو وناس من أصحابه كثير، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس.
ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمراً بالحياة، فقال لعبد العزيز: ما منعك أن تقتله؟ فقال: إنه ناشدني الله والرحم فرققت له. فقال له: اخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها! ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمراً فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال: ودرع أيضاً؟ إن كنت لمعداً! فأخذ الصمصامة وأمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني

وانتفض عبد الملك رعدة، فحمل عن صدره فوضع على سريره، وقال: ما رأيت مثل هذا قط قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة.
ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر فجعل يلقيها إلى الناس، فلما رأى الناس الرأس والأموال انتهبوا الأموال وفرقوا، ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال.
وقيل: إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه ابن الزعيرية فقتله وألقى رأسه إلى الناس، ورمى بصخرة في رأسه، وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد وخرج وجلس عليه، وفقد الوليد ابنه فقال: والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم. فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني، فقال: الوليد عندي وقد جرح وليس عليه بأس.
وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، وأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال: جعلت فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلاً بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس. وأراد قتل عنبسة بن سعيد، فشفع فيه عبد العزيز أيضاً، وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي، فشفع فيه عبد العزيز، وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا، ثم أخرجهم مع عمهم يحيى فألحقهم بمصعب بن الزبير.
ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو فقالت لرسوله: ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه. وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك.
فلما قتل عبد الملك مصعباً واجتمع الناس عليه دخل أولاد عمرو على عبد الملك، وهم أربعة: أمية وسعيد وإسماعيل ومحمد، فلما نظر إليهم قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلاً لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً ولكن كان قديماً في أنفس أوليائكم على أوليائنا في الجاهلية.
فأقطع بأمية، وكان أكبرهم، فلم يقدر أن يتكلم، فقام سعيد بن عمرو وكان الوسط، فقال: يا أمير المؤمنين ماتنعى علينا أمراً كان في الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنةً وحذر ناراً، وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك وأنت أعلم بما صنعت، وقد وصل عمرو إلى الله وكفى بالله حسباً، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لطن الأرض خير لنا من ظهرها. فرق لهم عبد الملك وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله فاخترت قتله على قتلي، وأما انتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم! وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم.
وقيل: إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم: عجبت كيف أصبت غرة عمرو. فقال عبد الملك:
أدنيته مني ليسكن روعه ** وأصول صولة حازمٍ متمكن

غضباً ومحميةً لديني إنه ** ليس المسيء سبيله كالمحسن

وقيل: إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب، فقال له عمرو: إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده وعلى ذلك قاتلت معه، فاجعل هذا الأمر لي بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك، فرجع إلى دمشق، وكان من قتله ما تقدم.
وقيل: بل كان عبد الملك قد استخلف عمراً على دمشق فخالفه وتحصن بها، والله أعلم.
ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال: إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} الأنعام: 129، وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} الفتح: 10، يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته.

.ذكر عصيان الجراجمة بالشام:

لما امتنع عمرو بن سعيد على عبد الملك خرج أيضاً قائدً من قواد الضواحي في جبل اللكام واتبعه خلق كثير من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم، ثم سار إلى لبنان، فلما فرغ عبد الملك من عمر أرسل إلى هذا الخارج عليه فبذل له كل جمعة ألف دينار، فركن إلى ذلك ولم يفسد في البلاد، ثم وضع عليه عبد الملك سحيم بن المهاجر، فتلطف حتى وصل إليه متنكراً فأظهر له ممالأته وذم عبد المكل وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح. فوثق به. ثم أن سحيماً عطف عليه وعلى أصحابه بوهم غارون غافلون بجيش مع موالي عبد الملك وبني أمية وجند من ثقات جنده وشجعانهم كان أعدهم بمكان خفي قريب وأمر فنودي: من أتانا من العبيد، يعني الذين كانوا معه، فقتل الخارج ومن أعانه من الروم، وقتل نفر من الجراجمة والأنباط، ونادى المنادي بالأمان فيمن لقي منهم، فتفرقوا في قراهم وسد الخلل وعاد إلى عبد الملك ووفي للعبيد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قتل زهير بن قيس أمير إريقية، وقد ذكرنا ذلك سنة اثنتين وستين، وفيها حكم رجل من الخوارج بمنى وسل سيفه، وكانوا جماعة، فأمسك الله أيديهم فقتل ذلك الرجل عند الجمرة.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على البصرة والكوفة له أخوه مصعب، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم.
وفيها توفي أبو الدؤلي زله خمس وثمانون سنة. ثم دخلت:

.سنة سبعين:

في هذه السنة اجتمعت الروم واستجاشوا على من بالشام، فصالح عبد الملك ملكهم على أن يؤدي إليه كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين.
وفيها شخص مصعب إلى مكة، في قول بعضهم، ومعه أموال كثيرة ودواب كثيرة قسمها في قومه وغيرهم ونهض ونحر بدناً كثيرة.
وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم.

.ذكر يوم الجفرة:

وفي هذه السنة سار عبد الملك بن مروان يريد مصعباً، فقال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلاً يسيرة رجوت أن أغلب لك علها. فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفياً في خاصته حتى نزل على عمرو بن أصمع، وقيل: نزل على علي بن أصمع الباهلي، فأرسل عمرو إلى عباد بن الحصين، وهو على شرطة ابن معمر، وكان مصعب قد استخلفه على البصرة، ورجا ابن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين وقال له: إني قد أجرت خالداً وأحببت أن تعلم ذلك لتكون ظهراً لي. فوافاه الرسول حين نزل عن فرسه، فقال عباد: قل له والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل. فقال ابن أصمع لخاد: إن عباداً يأتينا الساعة ولا أقدر أن أمنعك عنه فعليك بالمالك بن مسمع.
فخرج خالد يركض وقد أخرج رجليه من الركابين حتى أتى مالكاً فقال: أجرني، فأجاره، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد فكل أول راية أتته راية بني يشكر، وأقبل عباد في الخيل، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال.
فلما كان الغد عدوا إلى جفرة نافع بن الحارث ومع خالد رجال من تميم، منهم: صعصعة بن معاوية وعدب العزيز بن بشر ومرة بن محكان وغيرهم، وكان أصحاب خالد: جفرية ينتسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، وكان من أصحاب خالد: عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية: قيس بن الهيثم السلمي.
ووجه مصعب زحر بن قيس الجعفي مدداّ لا بن مهمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مدداً لخالد. فأرسل عبيد الله إلى البصرة من يأتيه بالخير، فعاد إليه فأخبره بتفرق القوم، فرجع إلى عبد الملك. فاقتلوا أربعة وعشرين يوماً وأصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب ومشت بينهم السفراء فاصطلحوا على أن يخرج خالد من البصرة، فأخرجه مالك.
ثم لحق مالك بثأج، وكان عبد الملك قدر جع إلى دمشق، فلم يكن لمعصب همة إلا البصرة وطمع أن يدرك بها خالداً فوجده قد خرج، وسخط مصعب على ابن معمر وأحضر أصحاب خالد فشتمهم وسبهم، فقال لعبيد الله بن أبي بكرة: يا ابن مسروح إنما أنت أبن كلبة تعاورها الكلاب فجاءت بأحمر وأصفر وأسود من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبداً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حصن الطائف ثم ادعيتم أن أبا سفيان زنى بأمكم، ووالله لئن بقيت لأ لحقنكم بنسبكم. ثم دعا حمران فقال له: إما أنت ابن يهويدة علج نبطي سبيت من عين التمر. وقال للحكم بن المنذر بن الجارود ولعبد الله بن فضالة الزهراني ولعلي بن أصمع ولعبد العزيز بن بشر وغيرهم نحو هذا من التوبيخ والتقريع، وضربهم مائةً مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وهدم دورهم وصدرهم في الشمس ثلاثاً، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة وأحلفهم أن لا ينكحوا الحرائر، وهم دار مالك بن مسمع وأخذ ما فيها، فكان مما أخذ جارية ولدت له عمرو بن مصعب.
وأقام مصعب بالبصرة، ثم شخص إلى الكوفة فلم يزل بها حتى خرج إلى حرب عبد الملك بن مروان.
والمغيرة بضم الميم، وبالغين، والراء. خالد بن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين. والجفرة بضم الجيم، وسكون الراء.
وفي هذه السنة مات عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو حد عمر بن عبد العزيز لأمه وولد قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم، بسنتين.

.ذكر مقتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي:

في هذه السنة قتل عمير بن الحباب بن جعدة السلمي، ونحن نذكر سبب الحرب بين قيس وتغلب حتى آل الأمر إلى قتل عمير.
وكان سبب ذلك أنه لما اقضى أمر مرج راهط وسار زفر الحارث الكلائي إلى قرقيسيا، على ما ذكرناه، وبايع عمير مروان بن الحكم وفي نفسه ما فيها بسبب قتل قيس لمارج، فلما سير مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد إلى الجزيرة والعراق كان عمير معه فلقوا سليمان بن صرد بعين الوردة، وسار عبيد الله إلى قرقيسيا لقتال زفر، فثبطه عمير وأشار بالخازر، فمال عمير معه، فانهزم جيش عبيد الله وقتل هو، فأتى عمير قرقيسيا وصار مع زفر، فجعلا يطلبان كلباً واليمانية بم قتلوا من قيس، وكان معهما قوم من تغلب يقاتلون معهما ويدلونهما.
وشغل عبد الملك عنهما بمصعب، وتغلب عمير على نصيبين. ثم إنه مل المقام بقرقيسيا فاستأمن إلى عبد الملك فأمنه، ثم غدر به فحبسه عند مولاه الريان، فسقاه عمير ومن معه من الحرس خمراً حتى أسكرهم وتسلق في سلم من حبال وخرج من الحبس وعاد إلى الجزيرة ونزل على نهر البليخ بين حران والرقة، فاجتمعت إليه قيس فكان يغير بهم على كلب واليمانية، وكان من معه يستأوون جواري تغلب وسخرون مشايخهم من النصارى، فهاج ذلك بينهم شراً لم يبلغ الحرب، وذلك قبل مسير عبد الملك إلى مصعب وزفر.
ثم إن عميراً أغار على كلب، ثم رجع فنزل على الخابور، وكانت منازل تغلب بين الخابور والفرات ودجلة. وكانت بحيث نزل عمير امرأة من تميم ناكح في تغلب يقال لها أم دويل، فأخذ غلام من بيني الحريش أصحاب عمير عدداً من غنمها، فشكت إلى عمير، فلم يمنع عنها، فأخذوا الباقي، فمانعهم قوم من تغلب، فقتل رجل منهم يقال له مجاشع التغلبي، وجاء دويل فشكت أمه إليه، وكان فارساً من فرسان تغلب، فسار في قومه وجعل يذكرهم ما تصنع بهم قيس ويشكو إليهم ما أخذ من غنم أمه، فاجتمع منهم جماعة وأمروا عليهم شعيث بن مليك التغلبي وأغاروا على بني الحريش ومعهم قوم من نمير، فقتل فيهم التغلبيون واستاقوا ذوداً لامرأة منهم يقال لها أم الهيثم، فمانعهم القيسيون فلم يقدروا على منعهم، فقال الأخطل:
فإن نسألون بالحريش فإننا ** منينا بنوكٍ منهم وفجور

غداة تحامتنا الحريش كأنها ** كلاب بدت أنيابها لهرير

وجاؤوا بجمع ناصري أم هيثم ** فما رجعوا من ذودها ببعير

.يوم مساكين:

ولما استحكم الشر بين قيس وتغلب، وعلى قيس عمير، وعلى تغلب شعيث، غزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين من الخابور فاقتتلوا قتالاً شديداً، وهي أول وقعة لهم، فقتل من بني تغلب خمسمائة، وقتل شعيث، وكانت رجله قطعت، فقاتل حتى قتل وهو يقول:
قد علمت قيس ونحن نعلم ** أن الفتى يقتل وهو أجذم

.يوم الثرثار الأول:

والثرثار نهر أصل منبعه شرقي مدينة سنجار وبالقرب من قرية يقال لها سرق وفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس الأويل من عمل الفرج.
لما قتل بماكسين من ذكرنا استمدت تغلب وحشدت واجتمعت إليها النمر بن قاسط وأتاها المشجر بن الحارث الشيباني، وكان من ساداتهم بالجزيرة، وأتاها عبيد الله بن زياد بن ظبيان منجداً لهم على قيس، فلذلك حقد عليه مصعب بن الزبير حتى قتل أخاه النابئ، بن زياد، واستنجد عمير تميماً واسداً فلم ينجده منهم أحد. فالتقول على الثرثار، وقد جعلت تغلب عليها بعد شعيث زياد بن هوبر، ويقال: يزيد بن هوير التغلبي، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت قيس وقتلت تغلب ومن معها منهم مقتلهً عظيمةً وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم، وقالت ليلى بنت الحارس التغلبيه، وقيل هي للأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا ** ومارس جيش وسماً ناقعا

والخيل لا تحمل إلا دارعا ** والبيض في أيماننا قواطعا

خلوا لنا الثرثار والزارعا ** وحنةً طيساً وكرماً يانعا

.يوم الثرثار الثاني:

ثم إن قيساً تجمعت واستمدت واستعدت وعليها عمير بن الحباب، وأتاهم زفر بن الحارث من قرقيسيا، وكان رئيس بني تغلب، والنمر ومن معهما ابن هرير فالتقوا بالثرثار واقتتلوا أشد قتال اقتتله الناس، وانهزمت بنو عامر، وكانت على مجنبة قيس، وصبرت سليم وأعصرت حتى انهزمت تغلب ومن معها وقتل ابنا عبد يشوع وغيرهما من أشراف تغلب، فقال عمير بن الحباب:
فداً لفوارس الثرثار نفسي ** وما جمعت من أهل ومال

وولت عامر عنا فأجلت ** وحولي من ربيعة كالجبال

أكاوحهم بدهمٍ من سليمٍ ** وأعصر كالمصاعيب النهال

وقال زفر بن الحارث:
ألا من مبلع عني عميراً ** رسالة ناصحٍ وعليه زاري

أنترك حي ذي يمنٍ وكلباً ** ونجعل جدنا بك في نزار

كمعتمدٍ على إحدى يديه ** فخانته بوهنٍ وانكسار